ذبابة الوالي

كانت بلادًا غارقة في السكون، تشعر لوهلةٍ وكأنك تعيش في قاع محيط! الناس يستهلكون كل يوم بيومه، يستيقظون صباحًا كغيرهم من البشر، يحمدون الله على نعمة الوالي ويدعون له بالعمر المديد والصحة المستدامة، يخرجون إلى أسواقهم ومحالهم التجارية، ويصمتون.. كانت القوافل التجارية تمر بالبلدة مرّ السحاب، لا أحد يفكر حتى في المكوث فيها أو زيارة سوق من أسواقها لأنّ الكثير من خارج سكان المنطقة كانوا يحسبون بأنها مهجورة أو مسكونة بالجان والأرواح لسكونها المخيف.. عاشت البلدة على هذا الحال أعوامًا وأعوام، أكوام من البشر تدفقت إلى الحياة وأخرى أدارت ظهرها لكل شيء واتخذت من القبور مرتعًا لها، والوالي على حاله يزداد شبابًا مع مرور الزمن، يتزوج أجمل النساء وينجب الأطفال ممن سيحملون همّ البلاد والعباد في قابل الأيام..

 

كان يومًا ليكون كغيره من الأيام الرتيبة الإعتيادية التي تمرّ على تلك البقعة المنسية من الأرض، لولا ما حدث يومها.. عرّج الوالي على حديقة قصره الممتدة على مدّ النظر كما عادته، حيث ألف الجلوس كل يوم تحت ظل شجرة رمان واسعة الظل، يمضي فرمانات الضرائب وموافقات الشهيق والزفير وقرارات الإعدام والولادة والإجهاض وما شابه من أمور ثانوية يجب على الوالي تخصيص وقت لها! وبينما الوالي منهمك في توقيع تلك الأوراق، لمح ذبابة تقف على ظله المنبسط بين أغصان الأشجار، اعتقد في بداية الأمر أن الأمر محض خيال لعين، لكن وبعد ثوانٍ مرت عليه كسنوات، تيقن حق اليقين بأن ذبابة جبانة دعست على طرف ظله بكل صفاقة ووقاحة!

 

صرخ الوالي بحرسه صرخة كانت لتشبّه حينها بصوت قنبلة صوتية لولا أن مثل تلك الأسحلة لم تكن متوفرة في تلك الأزمنة، تحملق حوله الحرس والعسس كفراخ البط المذعورة طالبين منه أن يأمرهم وبأنهم سيقتلعون له الشمس من جذورها لو أراد.. أمرهم الوالي بجمع خدم القصر، الصغير والكبير والرجال والنساء وحتى من لم يولد بعد منهم! وبعد أن تجمع كل خدم القصر كأكياس البصل والبطاطا التي تكدس عادةً في سوق الهال، أصدر الوالي أمره بقطع رؤوسهم جميعًا دون استثناء ودون حتى أن يعرفوا جريمتهم أو الذنب الذي اقترفته أيديهم الناكرة للمعروف!

 

ذاع الخبر في أرجاء البلاد كالجرب، أغلقت المحال أبوابها وتجمع الأهالي في بيوتهم ينتظرون رحمة الوالي أو عقابه.. هم يعرفون حق المعرفة أنهم مواطنون صالحون ولم يفعلوا ما يغضب الوالي منهم لا من قريب ولا من بعيد، لكن “ساعة الغفلة” لا مهرب منها ولا يعرف أحد متى تجيء وما سبب زيارتها! ربما يكونوا قد عصوا إرادة الوالي في مكانٍ ما دون دراية لا أحد يعرف.. عند الوالي فقط الخبراليقين وكلامه كنص مقدس أو كقدر يلتصق بالإنسان من يوم مولده إلى يوم وفاته، لا مفر!

 

راح العسس وحرس الوالي يجوبون البلاد من شرقها إلى غربها ومن بابها إلى محرابها كمكنسة كهربائية لا تتعب باحثين عن أي ذبابة قد يمرون بها، بعد أن أمرهم واليهم وحامي حماهم الرفعة بقتل كل ذباب البلاد دون تمييز طائفي أو عرقي! فقد عرف عن الوالي عدله المطلق في مثل هكذا قضايا مفصلية تمس قيمة الكائن الحي وكرامته..

 

مرّ أسبوع كامل بشحمه ولحمه من وقت الحادثة المشؤومة، مجازر كثيرة يندى لها الجبين اقترفت بحق كل ذباب البلاد التي تجمعت أشلائها عند أطراف البلدة وفي أسواقها وساحاتها، حتى بدت لمن لم يزر المنطقة من قبل وكأنها تلال جبلية موزعة هنا أو هناك كالنمش أو كقطاف لمحصولٍ ما تم تجميعه بهذا الشكل لبيعه فيما بعد.. وبعد أن أخذ الوالي حقه من الذباب وانتقم لكرامته التي كادت أن تهدر، أمر بحرق كل تلك الأكوام من الذباب وإقامة حفلة “باربيكيو” كبيرة يدعى إليها كبار الشخصيات المقربة من حاشيته للاحتفال بهذا النصر المبين!

 

تحول هذا اليوم من يوم أغبر في تاريخ تلك البلدة إلى يوم نصر واحتفال، حتى أنّ الوالي أمر بإدراجه على قائمة الأيام الخاصة التي تحتفل فيها البلاد سنويًا إلى يومنا هذا..

 

أكملت بعدها البلاد صمتها المعتاد، حياة اعتيادية لا شيء مختلف فيها، الأمهات تنجب نسخ طبق الأصل عمن قبلهم في كل شيء، في خوفهم وجوعهم وخنوعهم ولقمتهم المغمسة بالصمت.. الوالي رغم محاولاته ودعاء الناس له بالشباب الدائم والعمر المديد والحكم الذي لا آخر له، إلا أنه كبر في العمر وأصيب بأمراض لا تعد ولا تحصى وفقد قدرته على النطق السليم نتيجة جلطة دماغية أصابته بعد زواجه الأخير رقم 101!

 

وبينما يقبع الوالي في سريره كحمل وديع فقد شراسته وفحولته، لاحظ وجود بقعة صغيرة سوداء اللون على حافة سريره المطلي بالذهب! أمعن النظر لفترة ليست بالقصيرة وإذ بالفاجعة، ذبابة صغيرة تبدو حديثة الولادة تتبختر وتختال على سرير الوالي كراقصة شرقية.. هاج الوالي في سريره وماج وراح يضرب أسفل السرير في قدميه كبركان خامد، تجمع الخدم حوله محاولين معرفة سبب غضبه والرضوخ لأمره.. لكن وبعد كل محاولات الوالي للفت انتباههم لوجود الذبابة لم يستطيعوا فك شيفرة حالة الهيجان المستغربة التي ضربته، خاصةً بعد أن همد الوالي وصمت صمتته الأبدية بعدما انتبه إلى أن الذبابة طارت من مكانها وحطت رحالها على تاجه الذهبي المركون في وسط الغرفة!